السلام عليكم ورحمة الله
في شمال السودان توجد قرية اسمها الكرفاب غرب مدينة مروي الذي يقع بقربها خزان وسد مروي، وهذه القرية هي موطن أجدادي لكني لا أسافر إليها كثيراً وتبعد من الخرطوم أكثر من 450 كيلومتراً إلى الشمال. أول مرة سافرت إليها كان عام 2007 عندما تجاوز عمري الثلاثون عاماً، وكان الطريق إليها صعباً في الماضي، حيث كان طريق صحراوي يحتاج إلى يومين من السفر الشاق، لكن قبل سفري اﻷول ببضعة أعوام مُهد طريق إسفلتي يوصل إلى مدينة مروي، ثم بعدها بأعوام مُهّد طريق آخر يصل إلى قرية الكرفاب التي تبعد عن مدينة مروي وكريمة غرباً 50 كيلومتراً.

سافرت بالسيارة ثلاث مرات، و سافرت مثلها تقريباً بالبص وقرر والدي أن أبني بيت هُناك، مع أن بيت جدي كبير إلا أنه في موسم الإجازات واﻷعياد يصبح مليء بالناس من أعمامنا وأبنائهم. فبدأنا هذا المشروع بعد أن أعطاني قطعة أرض كان يمتلكها مساحتها حوالي 400 متر، وهي صغيرة بالنسبة للبيوت هُناك لكنها ضعف البيت الذي نسكنه في العاصمة. بدأ بناء ذلك البيت بإشراف والدي حيث كان يُشرف على البناء كل مرة يُسافر فيها إلى تلك القرية، وكان البناء معتمد على المواد المحلية من الطوب الحراري الذي يُصنع هُناك من الطمي الذي يجلبه النيل أثناء الفيضان وبعض الطوب المصنوع من الطين، وسقف الغُرف كان من قضبان حديدة معروشة بسعف النخيل، أي يجمع بين الحداثة والطُرق التقليدية للبيوت هُناك التي تُبنى بنفس الطريقة منذ مئات السنين.
كلما أُسافر إلى هُناك أصور كثير من الصور والفيديوهات لأراها مرة أخرى مع أبنائي وأهلي عندما أرجع، وكان أبنائي متشوقون للسفر إلى تلك المنطقة، لكن لم يُقدر الله لنا السفر طوال تلك اﻷعوام، حيث أن الطريق صعب يقطع صحراء قاحلة و هي جزء من الصحراء الكبرى لشمال أفريقيا، وكُنت أخاف أن تتعطل السيارة في الطريق، ولا توجد وسيلة أخرى إلا البص الذي يُسافر باكراً ولا يتوقف إلا في محطة واحدة في منتصف الطريق. كذلك لم يكن بيتنا هُناك قد اكتمل بعد، ولم أجد إجازة كافية للسفر. وكلما أستخير للسفر لا يتسهل اﻷمر، ولعل ذلك كان لخير لا نعلمه.
هذه المرة عزمنا على السفر أثناء هذه اﻹجازة الطويلة للمدارس، وأجريت صيانة للسيارة وجربت السفر بها في نفس الشهر قبل إسبوعين من هذه السفرية، و قد تكلمت عن تلك الرحلة إلى قرية ديم المشايخة في تدوينة سابقة، فأصبح هذا الشهر موسم السفر بالنسبة لي وموسم المغامرات، كُنت محتاج أن اختبر السفر بالسيارة تمهيداً للسفر للشمالية للتأكد من صلاحيتها بدون أبنائي وأجرب أن أسافر لمسافة طويلة لأختبر نفسي هل استطيع تحمل القيادة لساعات طويلة بعد أن انقطعت عن السفر طوال هذه الفترة، خصوصاً لمسافة طويلة تمتد إلى 500 كيلومتراً.
كُنت دائماً أصور لهم الرحلة على أنها رحلة تاريخية سوف يروا فيها مهد أجدادنا وبيوتهم والمزارع والنخيل والنيل والجبال، وسوف نرى معالم كثيرة في الطريق من صحاري وجبال وإهرامات وآثار، وسوف يروا بيتنا المبني بطريقة بدائية ونعيش فيه حياة بسيطة، فكانوا كلهم متشوقون لهذا السفر الذي لم نستطيعه طوال اﻷعوام السابقة إلا في آخر أيام عام 2020 ليصبح أهم إنجازاتنا في ذلك العام.
الجدير بالذكر أن كتابتي لهذه المقالة تُعيد لي الذكريات الجميلة لتلك الرحلة التي حدثت قبل أربع أسابيع من اﻵن، كذلك إذا قرأتها بعد أعوام مثلاً يمكنها أن تعيد لي تلك الذكريات. وهذه من ميزات الكتابة، بالإضافة لأنه توثيق، لذلك أحببت أن أنقل تلك التجربة بتفاصيلها إلى قُراء هذه المدونة. وتتميز الكتابة عن الصور وعن الفيدوهات، مع أن كلها تُكمل بعض، إلا أن الكتابة يستطيع فيها الكاتب أن يكتب جميع مشاعره التي لا تظهر في الصور ولا في تصوير الفيديو. وعندما أُشاهد بعض المحتويات في اليوتيوب أُكملها بقراءة التعليقات.
ما كان يؤخرني عن السفر كل مرة هو انتظاري للظروف المناسبة، لكن عرفت أخيراً أن الظروف المناسبة لن تأتي، وربما أفوت فرصة للسفر لا يأتي ظرف أفضل منها، لذلك هذه المرة كان الفاصل هو صلاة الاستخارة، فإن سهل الله لنا السفر فلن يضرنا طول الطريق أو نخاف من تعطل السيارة القديمة، وكُنت مُصر على أن أسافر بالسيارة في هذه الرحلة الأولى حتى نستطيع التوقف عند كل معلم ونعيش التجربة بدون قيود، فالسيارة تُمثل قمة الحرية في التنقل وخصوصاً في السفر، مع أن بها مخاطر مقارنة بالبص أو القطار، إلا أن متعة السفر لا تكتمل إلا بوسيلة تنقل تمثل الحرية في الحركة.
سافر والدي قبلنا بإسبوعين وجهّز لنا البيت، مع أنه لم يكتمل بعد، إلا أنه أصبح صالحنا للإقامة حيث أن الاحتياجات بسيطة للسكن في مثل تلك المناطق. قبل السفر بيوم نويت أن أخرج باكراً من العمل حتى أبدا التجهيز لهذه المغامرة الكبرى لنا، وكانت لدي محاضرة بعد صلاة الظهر كُنت أنوي أن تكون نصف ساعة فقط، لكنها استمرت ساعة ونصف إلى قريب صلاة العصر، فخرجت بعد المحاضرة مباشرة وقد أرهقتني تلك المحاضرة كثيراً، وأخبرت زملائي أني ربما أُسافر غداً وأرجع السبت، حيث لا أستطيع أخذ إجازة أكثر من يوم لزحمة العمل، لكن زحمة العمل هذه كانت من أكبر الدوافع للفرار من الخرطوم وتحمل مشاق هذه الرحلة، رجعت إلى البيت وسألت أبنائي هل هم مستعدون للسفر غداً، فتردد بعضهم ووافق جزء منهم، وانقطعت الكهرباء في المساء، فأصبحت الظروف غير مناسبة لاتخاذ قرار لصالح السفر، فلم أجهز للسفر ، خصوصاً بعد يوم شاق في العمل، كُنت أحتاج لأن أنام فأرتاح ثم أقرر في الصباح هل سوف نُسافر أم لا.
بعد أن صليت صلاة الفجر بدأت نشيطاً وكانت لدي الرغبة في المغامرة ثم أيقظت أبنائي وسألتهم من سوف يُسافر بعد أن كانوا مترددين في المساء، لكن نشاط الصباح كان دافعاً بأن أجابوا أنهم كلهم سوف يسافرون، ففرحت لتحمسهم للسفر وشرعت أجهز له. والجدير بالذكر أنه توجد لحظات جميلة في السفر أولها هو تجهيز حقيبة السفر، وهو تحدي و فرصة لتبسيط مقتنياتنا ومتاعنا لتلك الأيام. تأخروا كثيراً في الخروج فخرجنا من البيت بعد التاسعة صباحاً، لذلك كانت العقبة هي الخروج من زحمة العاصمة في هذا الوقت وهو يوم عمل، حيث كان يوم الخميس، فلم نستطع الخروج من زحام العاصمة إلا بعد ساعة، بعدها رأينا جبال المرخيات غرب الخرطوم وبدأ الطريق السفري فشعرنا بسعادة وراحة نفسية لا توصف، ودعينا بدعاء السفر والذي يُشعرنا بأن السفر أصبح حتمياً ورسمياً، وتركنا كل الهموم والزحام وإشارات المرور خلفنا لطريق سوف نُسافر فيه لمدة ست ساعات على اﻷقل دون المرور بتقاطع أو بإشارة مرور أو الركشات المزعجة في الطريق 🙂
عند الدخول للصحراء مع هذا الشارع الممتد واﻷشجار والمزارع التي تظهر في جوانب الطريق نبهت أبنائي بأن نشكر الله أن جعلنا نحن الوحيدين الذين يستمتعون بهذا اليوم وهذا السفر وباقي الناس في العمل، حتى من يُسافر فليس كلهم يُسافر لأجل إجازة أو ترفيه بل كثير منهم يُسافر لواجبات اجتماعية أو مصلحة له كانت في الخرطوم أو في الشمال، فقليل من الناس من يتمتع بالطريق، فتجد أكثرهم يركز على أن يصل في وقت وجيز ، لكننا خططنا لأن نستمتع بالطريق ونأخذ فيه وقتنا وهو أهم جزء من الرحلة، وأخذ منا كامل النهار.
أول معلم توقفنا عنده بعد ساعتين من السفر هو بيت اﻷرضة، حيث توجد قناطر للأرضة عمر بعضها يصل إلى مائة عام، وهي داخل ولاية الخرطوم، هذه صور للصحراء وأحد قناطر اﻷرضة:






مررنا بمنطقة رملية اسمها قوز أبو ضلوع، وهي منطقة مشهورة، قبل مد الشارع الأسفلتي كان المسافرون يمكثوا فيها يوماً كاملاً مع أنها لا تمتد أكثر من عشرة كيلومترات حسب ما ظهر لنا، إلا أن الخروج منها صعب و يحتاج لنوع معين من البصات القديمة التي تعبر تلك المنطقة بصعوبة بالغة. لكن بعد تعبيد الطريق اُستبدلت تلك البصات أو اللواري كما كانت تُمسى، ببصات سفرية مريحة وأصبح من السهولة السفر بسيارة صغيرة.
في منتصف اليوم خرجنا من ولاية الخرطوم بعد اكثر من ساعتين في الطريق السفري و أول منطقة تابعة لولاية الشمالية هي منطقة التمتام وبها مطاعم بسيطة، توقفنا عند أحدها، وهي من نوع المطاعم التي لا يمر عليها زائرون كثر كنا نحن وحدنا فيها طوال فترة مكوثنا، بخلاف المطاعم الكبيرة التي تتوقف عندها البصات فتكون مزدحمة. بعد أن فطرنا في ذلك المطعم صلينا الظهر والعصر جمعاً وقصراً، واتصلنا بأهلنا في الخرطوم نخبرهم بموقعنا ووالدي في الشمالية الذي ينتظرنا، والشبكة لا تتوفر كثيراً في تلك المنطقة الصحراوية لذلك الاتصال هو أمر صعب، لكن في المقابل يقل اﻹزعاج من الهاتف.


هذا الطريق الصحراوي كما يظهر في الخريطة فهو لا يتبع مسار النيل إنما هو طريق قُطري وهو أقصر الطرق للوصل لقُرى الشمالية ليلتقي بالنيل مرة أخرى، وهذه من أمتع اللحظات وترقبناها بعد قيادة أكثر من ست ساعات في هذه الصحراء القاحلة ترقبنا أن يظهر لنا النيل في أي لحظة ويظهر شجر النخيل قبلها من بعيد وتظهر قُرى الشمالية ليراها أبنائي لأول مرة، قدرنا عدد الكيلومترات المتبقية للوصول إلى تلك النقطة إلى أن رأينا النخيل وبدأت القرى في الظهور، لكننا كُنا في الضفة المقابلة لوجهتنا، فإما أن نعبر النيل بمعدية إلى الجهة المقابلة وهي أقصر الطُرق أو الذهاب إلى مدينة مروي للعبور بالجسر هُناك لكن في هذه الحال سوف نخسر حوالي ساعة ونصف، لذلك توقفنا أولاً عند المعدية وتُسمى معدية كنّار لننظر إذا كانت متوفرة ولأُري أبنائي تلك المعدية التي هي جزء من تراث تلك المنطقة وكان لا يوجد خيار آخر إلا بالعبور بها قبل بناء الجسور في تلك المنطقة، لكن وجدناها متعطلة ويتنقل الناس بمراكب صغيرة بدلاً عنها، وهي كانت تنقل سيارات من ضفة إلى ضفة:


بعد ذلك اتجهنا إلى مروي ومررنا بقريتنا الكرفاب ورأينا جبالها لكن كانت بالضفة المقابلة، فتوقفنا عندها وأخذنا بعض الصور


واصلنا السفر ورأينا مزارع النخيل وقرى الشمالية المختلفة -كما يظهر في فيديو في آخر هذه المقالة-، إلى أن وصلنا إلى جسر مروي لنعبر للضفة اﻷخرى ليتبقى لنا مسافة 50 كيلومتراً وكان الوقت قد اقترب إلى المغرب، وكان طريقاً متعرجاً بين جبال أو هضاب في تلك المنطقة، وكان هذا أصعب جزء في السفر، حيث كانت الشمس قبل المغيب أمامي مباشرة فلم أستطع رؤية الطريق المتعرج إلا بصعوبة، وكان لابد من اﻹسراع حتى لا تغيب الشمس فلا نعرف مكان النزول إلى تلك القرية، حيث أن الطريق مرتفع كثيراً ويحتاج معرفة المدخل الذي سوف نسلكه، في هذه اللحظات تعب أبنائي كثيراً من ثماني ساعات قضوها في السفر، ثم فجأة ظهر لنا في الخريطة أنه تبقى نصف كيلو فقط لقريتنا ففرحوا وصاحوا وكانت لحظة جميلة وفرحة كبيرة قبل الوصول لوجهتنا. ثم تهنا قليلاً إلى أن وجدنا المدخل فنزلنا به وكانت الشمس بدأت تغرب لكن لم تكن المسافة بعيدة إلى البيت، تابعت الطريق إلى أن تعرفت على بعض المعالم قبل الوصول إلى البيت، ثم وصلنا أخيراً بعد رحلة استمرت ثماني ساعات وكانت من أجمل اللحظات، وسلمنا على والدي وعمي وعمتي وبعض الجيران الذين كانوا بانتظارنا، وأدركنا صلاة المغرب في مصلى مقابل للبيت، ثم ذهبت مع إياس لأريه بيت جدي قبل أن تظلم الشمس، ثم تغدينا وشربنا الشاي بالحليب، وتجهزنا لننام حتى نصحوا باكراً، لنستكشف هذه القرية ومزارعها ونخيلها والنيل والجبال. كانت ليلة مقمرة لذلك لم نرى النجوم، لذلك سوف نوقت مرة أخرى – بإذن الله- لرحلة ليس فيها قمر أو يكون هلالاً لنرى النجوم والغبار النجمي الذي هو جزء من مجرة درب التبانة التي كلمت أبنائي عنها عندما رأيتها في إحدى زياراتي السابقة.
هذه خريطة الكرفاب تحدها جبال من الشمال والنيل جنوباً لذلك هي شريط من البيوت والمزارع يمتد مسافة خمسة كيلومترات، والخريطة اﻷخرى يظهر فيها بيتنا في منتصف الخريطة:


من الجدير بالذكر أننا رأينا في منتصف الطريق الصحراوي أحد المسافرين يُسافر بدراجة هوائية، ويظهر أنه ممن يُسافر حول العالم، تأسفنا أننا لم نتوقف لنتعرف عليه، كُنا مسرعين حينها، قلنا ربما كانت لديه قناة في اليوتيوب فنتابع رحلته هذه ونُصبح جزء من رحلته وقصته تُصبح جزء من مقالتي هذه، لكننا حسبنا أننا ربما نُلاقيه في رحلة الرجوع إذا كان يقطع 50 كيلومتراً في اليوم، لكن للأسف لم نصادفه في رحلة الرجوع.
كانت رحلة ذهاب ممتعة لم نحس فيها بأي ملل ولا تعب – بفضل الله- ووصلنا سالمين، سافرنا على مهلنا وكُنا نتوقف بعد كل مائة كيلومتر تقريباً عند كل معلم لنتمشى ونحرك أرجلنا من الجلسة الطويلة، وتوقفنا عند معالم كثيرة من أودية وجبال ومزارع، وفي المقالة القادمة سوف أتكلم بإذن الله عن اليوم الوحيد الذي قضيناه في قريتنا هذه، وكان يوم جمعة هل كان يكفي لنرى كل المعالم هُناك!
هذا فيديو عندما وصلنا إلى الضفة المقابلة لقرية الكرفاب
مقااال جميل.. زدت به شوقي لزيارة الصحراء.. فهي المكان الجغرافي الوحيد الذي لم يكتبلي زيارته لحد اللحظة.. مناظر جميلة.. تبارك الله ماشاء الله.. و كما نقول بالمغربية بصحتكم التحويسة العقبا لأيامات أخرى إن شاء الله.. ” التحويسة” معناها السفرية..
إذاً سوف أتكلم أكثر وأضع صور للصحراء في اﻷجزاء القادمة من القصة بإذن الله
إن شاء الله.. متشوقة لذلك فعلا..
بارك الله فيكم وفي كل إخواننا من السودان الحبيب فعلا كانت الرحلة مشوقة جدا، سبحان الله أنا أيضا كنت في رحلة إلى الجزائر العاصمة مع صديقي عبد الهادي وعمر وقطعنا مسافة 650 كيلومتر قبل الوصول وقضينا فيها ثلاثة أيام جميلة، شكرا لك أخي العزيز
في انتظار أن نسمع قصتكم ومغامرتكم يا أخ أحمد
إن شاء الله شكرا لك أخي الفاضل