أهمية التوثيق في حياتنا

السلام عليكم ورحمة الله

أثناء كتابتي أمس في مقالة عن استكشاف العالم بالخرائط، وأثناء سرد أحد قصص السفر التي كانت قبل أكثر من ثلاثين عاماً، ظهرت لي أهمية التوثيق، ثم جاءتني فكرة أن أكتب عن هذا الموضوع، ومع أني لا أكتب عن الموضوع قبل أيام أو أسابيع قبل أن يختمر، لكن حتى لا يدخل هذا الموضوع في قطار التسويف – والذي يسير ببطء، ويحمل الكثير من المتاع- فقررت الكتابة عنه مباشرة، وسبب آخر هو حماس آخر العام حتى تُحسب هذه المقالة ضمن مقالات عام 2021.

ما أعنيه بالتوثيق هو تسجيل المعلومات واﻷحداث من أذهاننا ومن بيئتنا ومن اﻷحداث حولنا إلى وثيقة في شكل نستطيع الاحتفاظ به لمشاهدته أو قراءته أو سماعه في وقت آخر و نستطيع نقله إلى أشخاص آخرين أو لأجيال أخرى، فتختلف طريقة ذلك التوثيق من كتابة في دفتر أو تصوير صور أو تسجيل فيديو أو تسجيل صوتي، ومع أنها كلها لا تنقل كامل اﻷحداث ولها جوانب قصور إلا أنها بلا شك أفضل من عدم التوثيق. لكن يوجد نوع آخر من التوثيق كان منتشراً في الماضي وما زال مستخدم بكثرة اليوم، وهو مشافهة اﻷحداث وحفظها ونقلها من شخص إلى شخص ومن جيل إلى جيل، لكن هل هذا يُعد توثيق! هو في الحقيقة أفضل من عدم التوثيق، وأفضل من عدم النقل، وقد انتقل إلينا كم هائل من المعلومات والمعلومات التاريخية بهذه الطريقة وهي طريقة امتازت بها العرب من صفاء أذهانهم في الماضي وقدرتهم على الحفظ، وحتى القرآن كلام الله حفظوه في صدورهم إلى فترة من الزمان ثم كتبوه، كذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حُفظت في الصدور ونُقلت من شخص إلى شخص ثم كتبت، لكن مشكلة هذه الطريقة هي أنها عرضة للتغيير والتحريف ومعتمدة بشكل كبير على صدق الراوي ودقته وحدة ذاكرته.

مع أنه في هذا الزمان توفرت وكثرت طرق التوثيق من تصوير وكتابة و محتوى ولا نحتاج أن نوصي الناس بهذا اﻷمر، إلا أنه يحتاج إلى تقنين، وطريقة للحفظ حتى يصل ما هو مهم إلى اﻷجيال اللاحقة، كذلك فإن كثرة التوثيق يمكن أن تشوش على المعلومات وتجعل الاحتفاظ بالمعلومة الأصلية المهمة المُراد إيصالها مهمة صعبة، وتجعل استخلاص المعلومة المقصودة مهمة شاقة ومضيعة للزمن.

في مجال عملنا في البرامج والتعامل مع الزبائن يُشكل التوثيق نقطة مرجعية مهمة لتسجيل كافة المطلوبات قبل البداية في تنفيذ أي مشروع، ثم تسجل طلبات اﻹضافات والتعديلات ويُحتفظ بها لوقت الحاجة، فدائماً ما نُصر على الزبون أن يكتب طلباته في البريد إذا حاول أن يطلبها مشافهة عبر الهاتف أو أحياناً عبر رسائل نصية بواسطة الشبكات الاجتماعية، فالطلبات المكتوبة هي التي تُمثل توثيق أفضل يمكن مشاركته والرجوع إليه حتى بعد عدة أعوام، ويحفظ حقوق كل طرف.

التسجيل المالي مهم جداً لكل المنصرفات واﻷرباح والذمم المالية، وقد سمعت أحد يعمل في هذا المجال يقول أن اﻹيرادات غير المُسجلة غير متحصلة، فمثلاً إذا لم تُسجل معاملة مالية في ذمة الزبون فلا يمكن المطالبة بها نهاية الشهر أو العام، وحتى لو دفع الزبون لكن لم تُسجيل كإيرادات فإنها لا تظهر في اﻷرباح نهاية العام فيظهر أن المؤسسة بها نقص في اﻷرباح ويمكن أن تكون هُناك إجراءات وقرارات في غير محلها تسبب بها عدم تسجيل كامل المصروفات أو اﻹيرادات. كما قال الله تعالى في آية الدين في أواخر سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، فهذا أمر من الله أن يُكتب هذا الدين، ثم بيّن الله تعالى من هو الذي يكتب: وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، ثم نهاه أن يمتنع عن الكتابة وذكّره بمنّه الله عليه بهذا العلم: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ، ثم بين الله عز وجل من الذي يُملي المعلومات، وهو صاحب الحق: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ وأمره أن يكون دقيقاً في اﻹملاء بأن لا يبخس منه شيئاً. ومع أن الكلام واﻷمر عن الذمم المالية والدَين، إلا أنه يمكن تحقيقه في كافة أنواع التوثيق في حياتنا، أن تكون هذه هي مبادئ التوثيق الصحيحة.

تأتي نقطة مهمة أخرى وهي الاحتفاظ بهذه الوثائق، لكن قبلها فلابد أن يكون هُناك اقتصاد في التوثيق حتى لا يصعب البحث عن المعلومة ولا يصعب تخزينها وحفظها، فإذا كان الحدث يمكن اختصاره وتسجيله في مقالة أو فقرة فليس علينا أن نكتب كتاباً، وإذا كانت صورة واحدة تكفي فليس علينا أن نأخذ مئات الصور، لكن يجب أن نغطي كافة الزوايا. إذا ضاعت الوثيقة وضاع التوثيق ضاعت المعلومة

أحد المشاكل في التوثيق هو التحيز، فإن كل موثق يمكن أن يتحيز لنظرته المختلفة للموضوع فيغير من الحدث حسب وجهة نظره، لذلك اﻷفضل أن يكون هُناك أكثر من موثق لنفس الحدث، ثم نترك لمن يستفيد من هذا التوثيق استنباط المعلومة الصحيحة من غير تحيز.

نوع مهم من المعلومات التي تحتاج توثيق هي الخبرة والمعرفة في كافة مناحي الحياة، فكل شخص بعد أن ينضج وتكون له تخصص وخبرة في هذه الحياة فلا نريد أن تذهب هذه الخبرة سُدى وتنتهي معه، بل يمكنه توثيق معرفته تلك بأي وسيلة من وسائل تدوين وحفظ المعلومات هذه ليستفيد من ملخص حياته غيره، وقد قال لي أحد زملائنا في العمل وهو من سويسرا – وكان يهتم جداً بالتوثيق- أن على كل شخص أن يكتب كتاب واحد على اﻷقل، مثلاً أن يكتب قصة حياته.

مشكلة أخرى في التوثيق أنها يمكن أن تضيع زمن من يستفيد منها، فتخيل مثلاً شخص وجد عشرات الساعات الموثقة عن شخص أو عن معلومة كان يمكن أن يختصرها في زمن أقل أو أن تكون في شكل مقالة مختصرة، فهذه النقطة سوف تواجهه اﻷجيال التي من بعدنا إذا وجدوا كماً هائلاً من المواد والمحتوى ليس كله ذو فائدة، أو أن الفائدة يصعب استخلاصها من بين محتوى آخر غير مفيد.

8 رأي حول “أهمية التوثيق في حياتنا

  1. مقال مفيد… التوثيق شي مهم في حياتنا، أحيانا أتذكر بعض القصص التي كانت تحكى لنا في الصغر لأحكيها لأولادي،أجد نفسي نسيت الكثير من الأحداث، لو كتبتها لوجدتها الآن.هذا على سبيل المثال.

  2. قبل أيام شاهدتُ لقاء ليوتيوبر شهير يدعى جو حطاب يجول في العالم ويصور شتى أنواع الثقافات، ما جعلني أحترمه جدًا هو قوله بأنه بات يحترم وقت المشاهد والمتلقي، وبالفعل ذهبت إلى قناته بعد انقطاع عنها إذ انحدرت في فترة ما إلى محتوى ثقيل وممل بعض الشيء، فإذا بي أجدها تحسنت كثيرًا، وقت الفيديو الواحد معتدل لا بقصير ولا طويل، يغطي معظم التساؤلات ويغذي الفضول تجاه عنوان الفيديو نفسه، أعتقد أنه لا يوجد الكثير ممن يحترم المتلقي في هذا العالم الافتراضي، وقد عرف جهاد حطاب كيف يكسب متابعوه ولخصها باحترام أوقاتهم وكذلك عدم وضع عنواين لا تمت للفيديوهات بصلة. من جديد عدتُ لقناته التوثيقية بأفلامها الوثائقية الهادفة.
    التوثيق مهم كما ذكرت، وعرضت المسألة بطريقة مُلمة ومرتبة، أهنئك على ذلك، وبالفعل هذه مقالة ناجحة أخيرة للعام المودع. أتمنى لك كل التوفيق، ولا نرجو منك أن تغفل بصمتك التوثيقية المهمة، فلا زلتُ رغم محاولتي دس نفسي في مجال التوثيق والافادة أجد في لغتي قصورًا وضعفًا، الناضجون باتوا أكثر حرصًا على أوقاتهم وأن تلقى واحدًا منهم يوثق للأجيال القادمة فهو يستحق الشكر بلا شك.🙏

    1. نعم جو حطاب أتابع قناته، وهو كما وصفت محتواه ليس بالممل أبداً وذات وقت مختصر. الحرص على وقت المشاهد أو المتلقي لأي محتوى مهم جداً يجب على صاحب كل محتوى أن يُراعيه، كذلك يجب أن لا يكون قصيراً مخلاً بالهدف والمعنى مثل أن يترك تساؤلات لا يجيب عنها، فخير اﻷمور الوسط. توجد نقطة أخرى هي مشكلة في المحتوى وهي التكرار، بأن نجد محتويات مشابهة وبنفس اﻷداء ليس فيها اختلاف، مثلاً شخص زار منطقة وتكلم عنها فنجد عدد من اﻷشخاص ذهبوا لنفس المنطقة وتكلموا عنها بنفس الكلام، لذلك التجديد والإبداع هو عنصر مهم ليكون المحتوى ذو إضافة
      >> الناضجون باتوا أكثر حرصًا على أوقاتهم
      هذه نقطة مهمة جداً، فكثير من هم في الشرق اﻷوسط من اﻷشخاص الناجحين أو المميزين أو أصحاب التجارب والخبرة يبخلون بالمحتوى، فلا نجد أن لديهم محتوى يُستفاد منه، بالنسبة لي شخصياً وقتي يزداد أهمية وأحياناً كتابة المحتوى يؤثر على عملي، لكن أجد أن هذه ضريبة واجبة للشخص الذي لديه خبرة أو معرفة أو صنعة فلا يبخل أن يلخصها ويفيد الناس بمحتوى عنها ويؤدي زكاتها

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s