قِصتُنا في قرية العِريباب شرق مدني

السلام عليكم ورحمة الله

تكلمت في تدوينات سابقة عن حياتنا في الريف في ولاية الجزيرة التي نزحنا إليها بعد الحرب في الخرطوم، لكن لم أذكر وأعرّف بالقرية التي مكثنا فيها، والآن بعد أن امتدت الحرب إلى ولاية الجزيرة وخرجنا منها آن الأوان للتعريف بها بعد أن قضينا فيها خمسة أشهر كاملة، كانت أفضل مكان أوينا إليه أثناء الحرب.

قرية العريباب هي قرية تقع شرق مدينة مدني في الطريق المؤدي إلى مدينة الفاو و القضارف، وهي تقع بين قرية عبدالله مصري وقرية الدناقلة وكردقيلي. هذا هو موقعها في الخريطة

لم نكن نعرف فيها أحد. دلنا علينا أحد زملائنا وقد سبقنا إليها، وسهل لنا الانتقال إلى هناك وساعدنا كثيراً هو وأهله حتى في الخروج منها بعد أن أصبحت المنطقة غير آمنة، فنشكرهم جزيل الشكر على ذلك. وقد صار لنا جيران وأصدقاء نتفقدهم ويتفقدوننا في هذه القرية خصوصاً في هذه الظروف، والخروج منها بعد كل هذه الفترة التي عشناها كان أمراً محزناً لنا، كما قلت لجيراني أننا حزنا من خروجنا من العريباب أكثر مما حزنا من خروجنا من بيتنا في الخرطوم.

القرية تقع شرق النيل اﻷزرق معظم أهلها أقرباء، تتميز بالبساطة وكذلك أهلها، يعملون في التجارة وصناعة الطوب ونقل البضائع، وقليل عندهم الزراعة، لكن القرية رعوية في فترة الخريف، يربون الماشية مثل البقر والغنم، لكن لاستهلاكهم داخل القرية فقط، ليست تربية تجارية ولا يوجد فيها مشروعات إنتاج حيواني أو زراعي كبيرة.

كان الجو فيها معتدل خصوصاً فترة الخريف، وعند هطول الأمطار تسيل أودية وجداول من الماء تأتي من المساحة الخلوية شرق القرية إلى أن تصب في النيل، وكان من بينها جدول يمر أمام بيتنا. المكان الذي سكنا فيه منطقة جديدة من القرية بالقرب من قرية عبدالله مصري، وكانت مرتفعة وبعيدة عن النيل بحوالي نصف كيلو. تكتسي الطرقات والميادين بل حتى البيوت بأنواع من النباتات واﻷعشاب ترعى فيها ماشيتهم. كان الإحساس جميل بأن ما نشربه من لبن يأتي من نفس اﻷرض واﻷحياء والمراعي التي نمر بها، فتجد الماشية ترعى في كل مكان حتى في بيتنا عندما نترك الباب مفتوح نجد بعض اﻷغنام دخلت لترعى في فناء البيت.

استقبلنا الجيران أفضل استقبال وساعدونا كثيراً حتى تأقلمنا على القرية، وكانوا يرسلون لنا بعض المأكولات الشعبية عندهم و اللبأ عندما تلد أحد أبقارهم. شربنا كثير من الحليب الطازج كامل الدسم، وكنا نستخرج منه القشطة والسمن، عرفنا أن معظم الحليب الذي كنا نشربه سابقاً في المدينة قليل الدسم ولا يشبه الحليب الطبيعي هذا.

يتميز سكان العريباب بأخلاقهم ومحافظتهم على التقاليد اﻹسلامية، وكان الترابط بينهم كبير وحتى مع من جاء من الخرطوم، فكانوا يهتمون بنا كثيراً ويسألوا عن أحوالنا، ويساعدونا إذا احتجنا إليهم. كُنت أدعوا الله حين ضاقت بنا الأماكن أن ينزلنا الله منزلاً مباركاً وهو خير المنزلين، فأحسب أن الله استجاب دعاءنا بأن أنزلنا في هذه القرية. كان المسجد يمتلئ بالمصلين خصوصاً صلاة الفجر والمغرب والعشاء، في صلاة الظهر والعصر يكون كثير من الناس في عملهم خارج القرية، خصوصاً صلاة الظهر لذلك كُنت أصلي بالناس صلاة الظهر، لأني كنت أعمل من البيت، كانت شبكة النت في القرية جيدة في معظم الوقت عند توفر الكهرباء. زارني أحد الجيران وقال لي أني لا أزور الناس، قال لي أني أصلي بالناس والناس يحترمونك ويقدرونك أنت وأبناؤك، فقلت له أني مشغول في عملي فأنا أعمل طوال الوقت حتى أيام نهاية الإسبوع، فهم لا يعرفون عن عملي كثيراً سوى أني أعمل مع شركة اتصالات، وقررت حينها أن أخصص وقت بعد صلاة الظهر من كل سبت لزيارة أحد الجيران، لكن زرت فقط إثنين من الجيران، لم استطع توفير وقت كل سبت، لكن مع هذه الزيارات القليلة تعرفنا على القرية وتاريخها.

ما زال جيراننا في العريباب يتصلون بنا ليطمئنوا علينا بعد أن خرجنا، وقالو لي أن البيت مازال متوفر لنا في أي وقت وأن القرية اﻵن آمنة، ووعدتهم أن أزور هذه القرية عند زيارتي لمدينة مدني بإذن الله. أصبحت لنا ذكريات كثيرة وأصدقاء كثر ومسجد ألفنا وارتحنا للصلاة فيه حزنا كثيراً على فراقه، وفراق جيراننا وفراق البيت الفسيح ذو الفناءين والنباتات البرية التي تنمو فيه والطيور التي تزوره بل حتى دجاج الجيران الذي يقفز عندنا لنضع له ما يتبقى من الخبز والقط الذي يحوم بالليل وكلب الصيد الذي يمشي في الجدار الفاصل بيننا وبين الحظيرة التي تقع في جوارنا مباشرة، واقتدنا شراء الحليب من جيراننا حيث اعتدنا وضع اﻹناء في الحائط بعد المغرب عندما ترجع الأبقار من المرعى ليملؤوه لنا بحليب طازج كل يوم. كانت حياة ريفية بسيطة وممتعة، وأصبحت هذه محطة مهمة من محطات حياتنا وذكرياتنا سوف نذكرها أعوام عديدة بإذن الله إن مد الله في أعمارنا.

مع أننا كنا نتمنى أن لا نخرج من هذه القرية إلا ونحن قافلون إلى ديارنا إلا أن البلاد ما زال فيها قرى ومدن كثيرة هذه فرصة لنتعرف عليها، فإن لم تنتهي الحرب وبدلاً من الشكوى والاستسلام للمعاناة دعونا نقتبس بعض حسناتها للقيام بجولة والعيش في أماكن لم نكن لنعيش فيها فترة طويلة كهذه لنتعرف على بلادنا وثقافات مختلفة وتاريخ وطبيعة ساحرة بل حتى مناخ مختلف من ولاية لولاية أخرى، ما دامت هذه المدن والقرى آمنة ولم يتوقف -عملي بفضل الله وحده- ووجدنا فيها مأكلنا ومشربنا والمسكن والمتاع البسيط والعبادة والمساجد فإننا في نعمة من الله نحمده عليها . مساحة هذه الولايات و المسافات بينها تعادل دول صغيرة لذلك يوجد فيها هذا الاختلاف في اﻷرض والمناخ، والنباتات وحتى الحيوانات. تيقنا تماماً قول الله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ‎﴿٥٦﴾‏

لدي كثير من الصور مع شرحها وقصصها، لذلك حتى لا أزحم هذه المقالة التعريفية بالقرية فسوف أخصص تدوينة منفصلة لعرض جزء من تلك الصور.

الكاتب: أبو إياس

مهندس برمجيات

5 رأي حول “قِصتُنا في قرية العِريباب شرق مدني”

  1. منطق سليم هو بقاؤك في الوطن إلى حين تصفيته وبإذن الله لن يطول الوضع وستفرج فنحن لا ننساكم حقيقة، حتى أني شاكرة لتعرفي عليك حتى أعرف حقيقة الوضع في السودان ولا تنال مني موضات الصحافة ومهنيتها القاسية حيث تركز على ما يدرّ دخلًا أكثر مع تهميش ما يناسب ميولها ومنافعها.
    أنتم في دعائنا، وعسى الله أن يجعل لكم من كل ضيق مخرجًا وفرجًا.

أضف تعليق